كيف أستخرج الطباق من النص؟
تُعَدُّ البلاغة العربية من أسمى الفنون اللغوية التي أبدعها العرب، إذ تجاوزت كونها وسيلة للتعبير إلى كونها علمًا دقيقًا يكشف أسرار الجمال والتأثير في اللغة، ومن بين فنون البديع التي تشكّل جوهر البلاغة العربية يبرز الطباق بوصفه أسلوبًا لغويًا قائمًا على الجمع بين الأضداد، لما يحمله من قوة في المعنى وعمق في الدلالة.
وسنتعرف في هذا المقال على الطباق في البلاغة العربية الذي لا يعدُّ مجرد تضاد لفظي، بل هو أداة فنية تُبرز المعنى وتقوّيه من خلال المقابلة بين المتناقضات، ممَّا يُرسّخ الفكرة في ذهن المتلقي ويجعل الأسلوب أكثر تأثيرًا وجمالًا، وقد كَثُر استخدام الطباق في القرآن الكريم، والشعر العربي، لما له من قدرة فريدة على شدّ الانتباه وإبراز المعاني.
تعريف الطباق في البلاغة العربية
الطباق هو الجمع بين معنيين متضادين في العبارة، وذلك بهدف تقوية المعنى وإبرازه، ويعدُّ الطباق أحد فنون علم البديع، وهو العلم الذي يُعنى بتحسين الكلام وتزيينه بعد استيفاء المعنى ووضوح الدلالة، ويقوم الطباق على فكرة التضاد أي الجمع بين الشيء وضده، مثل الليل والنهار، الحياة والموت، لخير والشر.
ولا يُستخدم الطباق لمجرد الزخرفة اللفظية، بل لتحقيق أهداف بلاغية متعددة، من أهمها توضيح المعنى وتقويته، وترسيخ الفكرة في الذهن، وإبراز التناقض أو المفارقة، وإضفاء جماليةٍ موسيقيةٍ على النص، فحين يُذكر الشيء وضده، يصبح المعنى أكثر حضورًا وتأثيرًا، وكأن الذهن يُدفع دفعًا إلى المقارنة والاستنتاج.
أنواع الطباق في اللغة العربية
يأتي الطباق في اللغة العربية على نوعين وهما كم يأتي:
طباق الإيجاب
وهو الطباق غير المعتمد على النفي والإثبات ككل الأمثلة السابقة، ومثاله قول الشاعر البحتري يصف بركة المتوكل:
فحاجب الشمس أحيانًا يضاحكها وريق الغيث أحيانًا يباكيها
الشرح: طابق الشاعر بين يضاحكها ويباكيها.
طباق السلب
وهو المعتمد على نفي الكلمة وإثباتها في العبارة كما في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}.
الشرح: والطباق بين (يعلمون) الأولى، وهي مثبتة، و(لا يعلمون) الثانية وهي منفية.
ما هي الملحقات بالطباق؟
يلحق بالطباق أمور ثلاثة سنشرحها لكم في السطور الآتية:
- طباق التدبيج: وهو الطباق الذي يقع بين الألوان، وذلك كما في قول الشاعر:
تردّى ثياب الموت حمرًا فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس
الشرح: والطباق واقع بين حمر وخضر. - الطباق الخفي: وذلك عندما تكون الضدية في الصورة غير ظاهرة، كما في وله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}.
والرحمة وإن لم تكن ضد الشدة إلّا أنها ناتجة عن اللين الذي هو ضدَّ الشدَّة. - إيهام التضاد: وذلك عندما تكون الضدّية متوهمة كما في قول الشاعر:
لا تعجبي يا سلم من رجل ضحك المشيب فبكى
الشرح: فقوله (ضحك المشيب) معناه ظهر بكثرة، وهو ليس عكس البكاء كما يُتَوهَّم.
أمثلة على الطباق من القرآن الكريم والشعر العربي
سندرج فيما يأتي مجموعة من أمثلة الطباق في القرآن الكريم والشعر العربي، فهما ذاخران بالأساليب البلاغية:
أمثلة من القرآن الكريم
- قال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ* وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ* وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ}.
الشرح: طباق إيجاب بين الأعمى والبصير، والظلمات وأنور، والظل والحرور. - قال الله تعالى: {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}.
الشرح: طباق سلب بين (فلا تقل) و(قل لهما). - قال الله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ}.
الشرح: والنجاة هنا ليست ضدَّ النار ولكنها تسببت من الدخول إلى الجنة، والجنة ضدّ النار لذلك نعدُّها من الطباق الخفي. - قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا ۚ وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}.
الشرح: الطباق الواقع بين (بيض) و(حمر) طباق تدبيج.
أمثلة من الشعر العربي
- قال الشاعر: حتام قلبي بشغول بذكركم يهذي وقلبك مربوط بنسياني
الشرح: طابق بين كلمتي بذكركم ونسياني، وهو كباق إيجاب. - قال الشاعر: لا تلكني على التي فتنتني وأرتني القبيح غير قبيح
الشرح: وقد وقع الطباق بين كلمتي القبيح وغير القبيح، وهو طباق سلب. - قال الشاعر: وتنظّري خبب الركاب ينصها محيي القريض إلى مميت المال
الشرح: محي القريض هو الشاعر، ومميت المال هو الرجل الممدوح يميته بكرمه، فالضدية هنا متوهَّمة. - قال الشاعر: ما إن ترى الأحساب بيضًا وضحًّا إلا بحيث ترى المنايا سودا
الشرح: والطباق هنا بين بيض وسود، وهو طباق تدبيج.
كيف تدرس الطباق مع تمكين العربية؟
يعتمد تطبيق تمكين العربية من ألف بي في تعليم الطباق في البلاغة العربية على الانتقال بالمتعلّم من الفهم النظري إلى الممارسة الواعية، انطلاقًا من مبدأ أن البلاغة لا تُتقَن بالحفظ، بل بالاكتشاف والتطبيق، إذ يُقدَّم مفهوم الطباق أولًا ضمن سياق لغوي حيّ مأخوذ من القرآن الكريم أو النصوص الأدبية الأصيلة، ثم يُوجَّه المتعلّم إلى ملاحظة الألفاظ المتضادة بنفسه، مما ينمّي لديه مهارة التحليل البلاغي بدل التلقّي السلبي، وبعد ذلك يركّز التطبيق على التدرّج؛ فيبدأ بالأمثلة الواضحة لطباق الإيجاب، ثم ينتقل إلى طباق السلب، مع أنشطة تفاعلية تُشجّع على الدراسة والفهم.
ولا يقتصر تمكين العربية على استخراج الطباق فحسب، بل يدفع المتعلّم إلى توظيفه في جمل من إنشائه، فيتدرّب على استخدام التضاد لخدمة المعنى لا لمجرد الزينة اللفظية، وبهذا الأسلوب التطبيقي المتكامل، يتحوّل الطباق من مفهوم بلاغي مجرّد إلى مهارة لغوية حاضرة في القراءة والكتابة والتذوّق الأدبي، وهو ما يحقّق الهدف الحقيقي من دراسة البلاغة العربية.
ختاما
في ختام هذا المقال يتضح لنا أن الطباق في البلاغة العربية ليس مجرد أسلوب زخرفي، بل أداة فكرية وبلاغية عميقة تُسهم في إبراز المعاني وتقويتها عبر التضاد، وقد رأينا كيف تنوّعت أنواعه بين الإيجاب والسلب، وكيف ارتبط بملحقات بلاغية توسّع من دلالته الفنية.






